إتساع الرواية والقياس عند الكوفيين

الأتساع في الرواية والقياس عند الكوفيين
لعل أهم ما يميز مدرسة الكوفة عن مدرسة البصرة اتساعها في رواية الأشعار وعبارة اللغة عن جميع العرب بدويهم وحضريهم ، بينما كانت المدرسة البصرية تشدد تشدداً جعل أئمتها لا يثبتون في كتبهم النحوية إلا ما سمعوه عن العرب الفصحاء الذين سلمت فصاحتهم من شوائب التحضر و آفاته .1
والذين عنهم نقلت اللغة العربية وبهم اقتدى ، وعنهم اخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم : قيس ، و تميم ، و أسد ؛ فأن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه ، وعليهم اتكل في الغريب وفي التصريف وفي الأعراب ؛ ثم هذيل ، وبعض كنانة ، وبعض الطائيين ، ولم يأخذ عن غيرهم من سائر القبائل .2
حيث أن أئمة الكوفة كانو يرحلون إلى البادية ، وهذه القبائل الفصيحة ، ويسمعون عنها وويأخذوا ما سمعوه ، قال الفراء : أنما تعلم الكسائي النحو على كبر ؛ وكان سبب تعلمه أنه جاء يوماً وقد مشى حتى أعيا ، فجلس إلى الهبار بين – وكان يجالسهم كثيراً _ فقال: قد عييت ، فقالوا له : تجالسنا وأنت تلحن ! قال : كيف لحنت ؟ قالوا له : أن كنت أردت من التعب ، فقل : "أعييت" ، وإن كنت تريد من انقطاع الحيلة فقل : "عييت" مخففة . تم قام من فوره ذلك يسأل عمن يعلم النحو ، فأرشده إلى معاذ الهراء ، فلزمه حتى أنفد ما عنده .
ثم خرج إلى البصرة ، فلقى الخليل وجلس في حلقته ، فقال له رجل من الأعراب : تركت أسد الكوفة وتميمها وعندهم الفصاحة ، وجئت إلى البصرة !
فقال للخليل : من أين أخذت علمك هذا ؟ فقال : من بوادي الحجاز ونجد وتهامة .
فخرج ورجع وقد أنفذ خمس عشرة قنينة حبر في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ . فلم يكن له هم غير البصرة والخليل ، فوجد الخليل قد مات ، وقد جلس موضعه يونس النحوي ، فمرت بينهم مسائل أقر فيها موضعه وصدره .3
ولكن أن الكوفيين وفي مقدمتهم إمامهم الكسائي كانوا لا يكتفون بما يأخذون عن فصحاء الأعراب ، كانوا يأخذون عمن سكن من العرب في حواضر العراق ، وكان البصريون لا يأخذون عنهم ولا عن قبائلهم المقيمة في مواطنها الأصلية مثل تغلب وبكر لمخاطتهم الفرس . لقد هاجم البصريون الكوفيين وشنوا عليهم العديد من الحملات عندما وجدوهم يتوسعون في الرواية ، ولقد خصوا الكسائي في الكثير من حملاتهم ، قال عبد الله : "وذلك أن الكسائي كان يسمع الشاذ الذي لا يجوزُ الخطأ واللحن وشعر غير أهل الفصاحة والضروراتِ ، فيجعل ذلك أصلاً ويقيس عليه حتى أفسد النحو "4
وقال أبو زيد الأنصاري : قدم الكسائي البصرة ، فأخذ عن أبي عمرو بن العلاء ، وعن يونس بن حبيب الضبي وعيسى بن عمر علماً كثيراً صحيحاً ، ثم خرج إلى بغداد ، وقد قدم اعراب الحطمة وأخذ عنهم أشياءً فاسدة ، فخلطط هذا بذاك فافسده . 5

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المدارس النحوية ، د.شوقي ضيف ، دار المعارف ،الطبعة الخامسة ، ص159
2- المزهر في علوم اللغة و أنواعها ، جلال الدين السيوطي ، المكتبة العصرية ، ج1/ص211
3- إنباه الرواة ، الوزير جمال الدين القفطي ، دار الفكر ، القاهرة_مصر ،ج2/ص258-259
4- معجم الأدباء ، ياقوت الحموي ، مكتبة القراءة والثقافة الأدبية ، ج13/ص283
5- إنباه الرواة ، الوزير جمال الدين القفطي ،ج2/ص274

فلما ناظر الكسائي سيبويه استشهد بكلام أعراب الحُطيمة ، واحتج بهم وبلغتهم على سيبويه ؛ فقال أبو محمد اليزيدي : كنا نقيس النحو فيما مضى _الأبيات_ والأبيات في أخبار اليزيدي أشعارٌ في الكسائي ذُكرت في أخبارهِ ، ومن قول اليزيدي فيه :
أفسد النحو الكسائيـ      ــى وثنى ابنُ غزالهْ
وأرى الأحمرَ تيساً       فاعلِفُوا التيس النخالهْ 1
قال عبد الله بن مقلة : حدثني أبو العباس أحمد ابن يحيى قال : اجتمع الكسائي والأصمعي عند الرشيد وكانا معه يقيمان بمقامه ، ويظعنان بظعنه ، فأنشد الكسائي :
أم كيف ينفع ما تُعطى العلوق بهِ         رئمانُ أنفٍ إذ ما ضُن بالـلــبن
فقال الأصمعي : رئمان بالرفع ، فقال له الكسائي : اسكت ما أنت وهذا ؛ يجوز رئماناً و رئمانٌ و رئمانٍ ، ولم يكن الأصمعي بصاحب عربيةٍ ، فسألت أبا العباس كيف  جاز ذلك ؟ فقال: إذا رفع رفع بينفع ، أي أم كيف ينفعُ رئمانُ أنفٍ ، وإذا نصب نصب بيعطي ، وإذا خفض رده على الهاء في به .2
ومما اتضح أثره في مناظرته المشهورة لسيبويه ، فأن سيبويه تمسك فيها بما سمعه عن العرب الفصحاء في مثل : " قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي " حتى إذا قال الكسائي أنه يجوز " فإذا هو أياها " أنكر ذلك انكاراً شديداً . وسرعان ما استعان عليه الكسائي بأعراب عشيرة الحطمة ، فأيدوه ، وتأيدهم لا قيمة له في رأي سيبويه ومدرسته ، لأنهم ليسوا فصحاء المتبدين في قيعان نجد وتهامة والحجاز ، ممن يأخذ على لسانهم النحو واللغة .3
وكان ذلك بدءاً الخلاف واسع بين المدرستين ، فالبصرة تتشدد فى فصاحة العربى الذى تأخذ عنه اللغة والشعر والكوفة تتساهل ، فتأخذ  عن الأعراب الذين قطنوا حواضر العراق .4
ولم تقف المسألة عند حد الأتساع  في الرواية ، بل أمتدت إلى الأتساع في القياس وضبط القواعد النحوية ،أن البصريين اشترطوا في الشواهد المستمد منها القياس أن تكون جارية على ألسنة العرب الفصحاء ، و أن تكون كثيرة بحيث تمثل اللهجة الفصحة ، وبحيث يمكن أن نستنتج منها القاعدة المطرد ، وبذلك أستخرجوا القواعد والأصول وضبطوها وأصبحت علماً واضح المعالم بين الحدود والفصول ، وكانوا يرفضون عكل ما شذ او خرج عن القاعدة ، كما أن لكل قاعدة في العلوم شذوذ و اطراد ، ولم يقف البصريون عند حد الرفض أحياناً ، ووصفوها بالغلط و لحن ، وهم لم يتهموهم بذلك حسب المدلول الظاهر للكلمتين ، ولكن يقصدون بانه شاذ عن القياس الموضوع .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- معجم الأدباء ، ياقوت الحموي ، ص182
2- نفس المرجع ،ص183-184
3- المدارس النحوية ، د.شوقي ضيف ، ص160
4- نفس المرجع ، ص160


قد وقف الكوفيون من هذا البناء العلمي المحكم موفقاً يدل على نقص فهمهم للقواعد العلمية من سلامة واطراد ، وإذ استشهدوا بأقوال وأشعار المتحضرين من العرب ، كما استشهدوا بالأشعار والأقوال الشاذة التي سمعوها على ألسنة الفصحاء ، مما خرج على قواعد البصريين وأقيستهم ومما نعتوه بالخطأ والغلط ، وقد قاسوا على ذلك كثيراً ، مما أحدث اختلاطاً في نحوهم .1
كذلك اختلفوا في مسألة القياس ، وضبط القواعد النحوية ، فقد الأستعمال بحيث تمثل اللغة الفصحى خير تمثيل ، أما الكوفيون فقد اعتدوا بأقوال المتحضرين من العرب وأشعارهم ، كما أعتدوا بالأشعار والأقوال الشاذة التي سمعوها على ألسنة الفصحاء ، التي نعتها بالخطأ والشذوذ حتى ، قال الأندلسي : " الكوفيون لو سمعوا بيتاً واحداً فيه جواز مخالف للأصول ، جعلوه أصلاً ، وبوبو عليه بخلاف البصريين "2
وقد يتساهلون مع هذا في التثبت من معرفة القائل ، وربما استشهدوا بشطر بيت لا يعرف شطره الأخر ولا يعلم قائله كجوازهم على دخول اللام على الخبر لكن بقول مجهول :
ولكنني في حبها لعميد
وأول من سن لهم طريق التسامح إلى أبعد مدى شيخهم الكسائي ، وذلك أن الكسائي كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز من الخطأ واللحن وشعر غير أهل الفصاحة ، وضرورات  فيجعل ذلك أصلاً يقيس عليه حتى أفسد النحو .3
لذلك بقي النحو البصري مسيطراً على المدارس النحوية ، وعلى جميع العرب الذين جاءوا بعدهم ، الأن القواعد التي استخرجوها هي قواعد مطردة مع الفصحى .
أن النحويين البصريون كان منهم من يتشدد للقياس ، ويهمل ويخطأ كل ما شذ عن القاعدة أمثال عبد الله بن أبي أسحاق  الحضرمي ، وعيسى بن عمر الثقفي ، وهناك من يقيس على أشيع وأكثر كلام العرب ، متل أبو عمرو بن العلاء ، كان يؤول كل ما شذ عن القاعدة ويعتبره لغة خاصة ويعتبره عربياً صحيحاً ، وكان كذلك يونس بن حبيب الضبي ، الذي نهج منهج أستاذه أبو عمرو بن العلاء ، في القياس على أغلب كلام العرب ، والسماع عن العرب الفصحاء .
أما الكوفيون فقد كانوا يعتدون بمثال واحد ، ويتعلقون به ، ويبنون عليه حكماً نحوياً ، ويعممون الظاهرة الفردية ، ويجعلونها قياساً متبعاً .



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- نفس المرجع ، ص161
2- نشأة  النحو وتاريخ أشهر النحاة ، محمد طنطاوي ،ص141
3- نفس المرجع ،ص141




وكأنما غاب غور هذا العمل ما أرسى به من علم النحو على بعض المعاصرين ، فأذا هو يطعن على البصريين لذلك الموقف ، بينما يحمد للكوفيين موقفهم ، وزعم أنهم كانوا أدق من البصريين في فقه طبيعة العربية و الأحساس بدقائقها التي لا تخضع دائماً لمنطق العقل .
يقول شوقي ضيف : " وما اعرف كتاباً يعلم دقة الحس اللغوي نحو ما يعلمها كتاب سيبويه ، بحث لا أبالغ إذا قلت أنه يلقن قارئه سليقة العربية ، والحس بها حساً دقيقاًمرهفاً ، والشعور بها شعوراً رقيقاً حاداً "1
أن مدرسة البصرة كانت أدق حساً من مدرسة الكوفة ، في فقه بدقائق العربية ، وأسرارها ، فقد تعمقت ظواهرها وقواعدها النحوية والصرفية تعمقاً أتاح لها أن تضع نحوها وضعاً سديداً وقويماً ، قد أخذت تصحيح ما ند عن بعض الشعراء عن طريق التأويل ، والتخريج ، والتحليل الدقيق البصير ، لا على على اساس العقلية ، وعلى أساس السليقة .2

أمثلة للقياس الكوفي
1- تجوزهم مجيء العدد للتكرار على وزني فُعَال ومَفْعَل ممنوع من الصرف للوصفية والعدل من خمسة إلى تسعة مع ان المسموع عن العرب في ذلك من واحد إلى أربعة ، لكنهم قاسوا في الباقي عليه إلى تسعة نحو خُماس و مَخْمَس ، وسُداس و مَسْدَس ، والسماع مفقود . 3

2- البصريون ذكروا شروط صيغة أفعل التفضيل أن لا يكون أصل الوصف على وزن أفعل نحو أبيض وأسود ، ولما جائهم قول الشاعر :

جارية في دراعها الفضفاض           أبيض من اخت بني اباض
أنزلها الكوفيون منزلة المقيس عليه ، وتأوله البصريون على أنه من قولهم "باض فلاناً " إذا غلبه وفاقه في البياض ، وأبقاه ابن مالك على ظاهره وطرحه إلى المسموعات الشاذة .4
3- من الأقوال الشاذة ما لا تجد للتأويل فيه مسوغ ، ومن أمثلته أن البصرين يمنعون ان تجمع التي لا تقبل تاء التأنيث جمع المذكر السالم نحو أسود وأحمر ، وأجازه الكوفيون تمسكاً  بقول الشاعر :
فما وجـــدت نساء بنـــي تميم                حلائـل أســـودين و أحــمرين
ولا يتخلص البصريون من هذا الشاهد إلا بطرحه إلى بطرحه إلى النادر الذي لا يقوم عليه القياس .5

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المدارس النحوية ، د.شوقي ضيف ، ص163
2- نفس المرجع ، ص163
3- نشأة  النحو وتاريخ أشهر النحاة ، محمد طنطاوي ،ص141/142
4- دراسات في العربية وتاريخها ، د.محمد الخضر حسين ، مكتبة دار الفتح ، دمشق-سوريا ، ص42
5- نفس المرجع ، ص43

4- جوزهم الجزم بكيف مطلقاً ، قال الرضى : " والكوفيون يجوزون جزم الشرط والجزاء بكيف وكيفما قياساً ، ولا يجوزه البصريون إلا شذوذاً "1

5- جوزهم إضافة كذا إلى المفرد والجمع قياساً على العدد الصريح ؛ قال ابن هشام :" خلافاً للكوفين أجازوا في غير تكرار ولا العطف أن يقال كذا ثوب كذا أثواب قياساً على العدد الصريح "

أن الكوفيين بعملهم هذا قد فتحو على أنفسهم باباً واسع الفوهة ، فهم لو أقاموا لكل مسموع وزناً والمسموع في اختلافه لا يقف عند نهاية ، واعتمدو بعد هذا على القياس النظري عند أنعدام الشاهد أنعداماً كلياً ، وقد اضطروا بعد ذلك إلى وضع قواعد كثيرة خالفوا فيها البصريين ، فكثر عندهم التجويز للصور المتخالفة ، كما قل عندهم ما كثرعن البصريين من التأويل والشذوذ والأضطرار والأستنكار .2
أن ما يأتي غلى غير القياس قسمان
الأول – ان يكون كلام العرب السائراً على سنة معروفة ، ووضع عام ، فتسمع الكلمة أو نحوها ممن لا يعرف في الفصاحة وهي تخالف المعروف في مجاري الكلام ، فهذه لا يجوز أن تكون موضع للقياس ، ان الكلمة او الكلمتان لا يجوز أن يقفوا في وجه القاعدة التي يجريي علييها الفصحاء .
قد جرت عادة النحاة ان يصفوا خروج العربي الفصيح عن الشذوذ ، ولا يبالون أن يسموا خروج المولد عنها خطأ أو اللحن ، وقد يصفون خروج العربي عن الاصول بالغلط ، بناء على أن العربي يستطيع أن يلحن أذا تعمد اللحن ، كما أنه يستطيع أن يتكلم بغير لغته ، يذكر النحاة في شروط عمل "ما " عمل ليس فيي لغة أهل الحجاز مراعاة الترتيب بحيث لا يتقدم خبرها على أسمها ، فورد قول الفرزدق :
إذ هم قريش وإذ ما مثلهم أحد
فقدم خبر "ما " على أسمها ، فقالوا : قول الفرزدق هذا شاذ أو غلط ، لان الفرزدق تميمي وأراد أن يتكلم بلغة أهل الحجاز ، ولم يدر أن من شرط نصبها للخبر الترتيب بين أسمها وخبرها .3
ثانياً _ ما يرد في الكلام الفصيح ، وتتحقق أنه لم يصدر عن خطأ  أو تلاعب في أوضاع اللغة ، مثل آيات الكتاب الحكيم ، والأحاديث التي ثبتت أنها مروية بألفاظها العربية الصحيحة ؛ صح لنا أن نعطيها حكم استحواذ و استصواب فنتكلم بها لانها كلامة لا شبهة في فصاحتها ، ولكن نرجع بأمثالها إلى حكم القياس .4


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- نشأة  النحو وتاريخ أشهر النحاة ، محمد طنطاوي ، ص142
2- نفس المرجع ، ص143
3- دراسات في العربية وتاريخها ، د.محمد الخضر حسين ، ص43/44
4- نفس المرجع ، ص44



تعليقات

المشاركات الشائعة