دوافع زهد أبو العتاهية
بـــواعـــث الـزهـد عند الشاعر
تدرج شعر أبي العتاهية مع اطوار حياته ، مصوراً لها من جميع نواحيها
الوجدانية والعقلية والنفسية ، مصوراً لانعكاسات البيئة والحياة من حوله ، ومدى
تأثيرهما على نفسه ووجدانه ، وعندما وصل إلى الطور الأخير من حياته وبلغ سن
الخمسين ترك قول الشعر في الغزل وكل الأغراض الأخرى ، وتعلق بغرض الزهد .[1]
أن هناك أسباب جعلت أبا العتاهية يترك حياة اللهو والعبث والمجانة ،
ويتعلق بالزهد ويتخصص فيه .
أن الواقف على أبحاث الدارسين والباحثين ، وديوان أبي العتاهية ،
يتكون لديه فكرة عن بواعث وأسباب زهد الشاعر ، فمن بواعث زهده .
1-
الخوف والضعة :
عندما ولد أبو العتاهية وجد نفسه من طبقة
الأنباط ، وكانوا يعيشون حول الحيرة ، وهو نفسه يشه في شعره بأنهم الطبقة الدنيا ،
حيث يقرر أن الموت أو القبر أو الأخرة هي الدار التي تسوي بين علية القوم وأدانيهم
،[2] فيقول
:
صرت إلى الدار هي الدار لا التي أقمتَ
بها حياً وأنت نشيط
محل بهِ الأقوامُ ويحك تستوي فصيد كــرامٌ سادةٌ ونبيطُ [3]
وتلك الضعة هي التي جعلته يضطرب في تحديد
في القبائل والأنساب العربية ، فهو تارة في ولاء مندل وحيان من أبناء العنزي ،
وهذا النوع من الاضطراب والحيرة في تحديد ولائه بين العنزيين ، ولكن الأكثر دلالة
في هذا السياق أنه لما تغيرت به الأحوال ورحل عن الكوفة إلى بغداد جعل ولاءه في
اليمانية أخوال المهدي ، لأن يزيد بن منصور الحميري قام بحمايته والدفاع عنه عندما
حبسه المهدي . وضعته لم تكن قاصرة على نسبه النبطي بل تجاوزت ذلك إلى صناعة أبيه في الحجامة ، فقد اشار ابو
العتاهية لهذه المهنة في قوله :[4]
ألا إنّما التّقوَى هيَ العِزّ
وَالكَرَمْ وحبكَ
للدنيَا هو الذلُّ والعدمْ
وليسَ على عبدٍ تقيٍّ نقيصةٌ إذا صَحّحَ التّقوَى وَإن حاكَ أوْ حجمْ [5]
فهو وضيع النسب ، حقير المهنة ، شريف النفس
، يتسلح بالزهد ، كما يبتعد بنفسه عن ظلم الناس ، ويفخر بالتقى والزهد وطاعة الله
سبحانه وتعالى ويجعل ذلك فوق الحسب والنسب.
كما أن سبب ضعته حرفته مع أخوته في صناعة
الجرار ، وحملها في أقفاص والمرور بها في الطرقات لبيعها ، وقد ظلت هذه صنعة
تطارده حتى عندما أصبح شاعراً مرموقاً في بلاط خلافة المهدي .[6]
أن عتبة جارية الخيزران زوجة المهدي قد
ردته ولم تقبل به لأنه بائع جرار متكسب بالشعر ، وما رأينا غانية ترد شاعر بمثل ما
ردت عتبة حب ابي العتاهية.
قد أكثر أبو العتاهية نسيبه في عتبة ، فمن ذلك قوله:
أعلمت عتبة
أنني منها على شرف مطل
وشكوت ما ألقى إليها والمدامع تستهلّ
حتى إذا أبرمت بما أشكو كما يشكو الأقل
قالت: فأي الناس يعلم ما تقول ؟ فقلت كل [7]
وشكوت ما ألقى إليها والمدامع تستهلّ
حتى إذا أبرمت بما أشكو كما يشكو الأقل
قالت: فأي الناس يعلم ما تقول ؟ فقلت كل [7]
يتحدث صاحب الأغاني عن حب أبي العتاهية
لعتبة فيقول : "وأخباره مع عتبة من أعظم اخباره لأنها طويلة ، وفيها
اغانً كثيرة " يصف الشاعر جمالها وحسنها ودلالها فيقول :
كأنها من حسنها درة أخرجها اليم إلى الساحل
أخال في فيها وفي طرفها سواحراً أقبلن من بابل [8]
وقبل عتبة ردته سعدى مولاة آل معن بن زائدة
، وبسببها ضرب مئة صوت ، وتعرض للشنعة في نفسه ، وكونه هجاها أقذع هجاء في عرضها ،
فهذا دليل الانتقام منها بسبب أعراضها الذي لا بد أن مبعثه كان إهانة له في شخصه .[9]
حيث أن أحساس الشاعر الدفين بضعت نسبه
ونقصانه ، كان من الأسباب القوية التي دفعته إلى سلوك مسلك الزهد ، فكان يردد في
شعره دائماً أن الأنسان لا يجب ان يفخر بحسبه ونسبه وماله ، أنما يفخر بالتقوى والعمل الصالح ، فهو
يقول :
لا فخــر إلا فخــر أهــل
التقـى غـــداً إذا ضمهُ
المحشـــرُ
ليعلمـــن النـــاسُ أن
التقـــى والــبر كانــا خــير
مـا يذخـرُ
مــا أحمــق الأنســان في
فخــره وهــو غــداً فــي حُفــرة
يقـبرُ
مــا بــالُ مــن أولــهُ
نطفــةٌ وجيفــــةٌ آخــــرهُ
يفخـــرُ[10]
2-
غريزة الدفاع
والتكيف
أن المظالم السياسة في الكوفة دفعت أبا
العتاهية إلى عالم المجانة والتخنث ، ليغرق همومه ويفر من معاناته ، وينتقم لنفسه
من كل معنى كريم ، انتقاماً من الدنيا التي لم تحفظ كرامته ، وهو في الواقع انتقام
من المجتمع بإهدار قيمه التي يجب أن يتمسك بها ، وهذا السلوك يوفر له الأمن السياسي
حيث لا يطلبه العسس . وكان في أول مرة يتخنث ويحمل زاملة المخنثين ، ولعل ريح
البطش وارتياع العامة والخاصة للناس في ظل الظروف السياسية السيئة للكوفة ، هو الذي حد بأبي العتاهية أن يطلب
سبيل السقوط والمجانة في رحاب المخنثين في مطلع شبابه .[11]
أبو العتاهية نفسه عندما سئل كيف يضع نفسه
مع المخنثين ، أجاب بما يفيد أنه ليس منهم ، ولكنه محتال أو محتاج إلى صحبتهم .[12]
كانت بيوت القيان بالكوفة منتشرة ، وكانت أشد خطراً وأبعد أثراً من دور
اللهو والمجانة في عصرنا الحديث ، لدرجة
أن الجاحظ يقول عنها : " لو لم يكن شرك يقتل به ، ولا علم يدعو إليه ، ولا
فتنة يستهوي بها ، إلا القيان لكفاه " [13]
ثم أنتقل إلى بغداد واجتهد في توثيق علاقته
في بلاط الخلافة في عهد المهدي إلى عهد المأمون ، فأمن نفسه سياسياً واجتماعياً
ومادياً وأدبياً ، ولكن ذلك لم يشفِ غيظ نفس حساسة ، تتطلع إلى المجد بموهبتها ،
وتدرك من حقائق الحياة برهافة شاعريتها ما يجعل تقاليد المجتمع و مقرراته الاجتماعية
أمراً باطلاً . لأنها تقوم على غلبة أهل الجاه بالسلطة تارة وبالثراء و النسب ،
فأصبحت آلام نفسه البعيدة النشأة المتراكمة الأحداث والدلالات تتطلع إلى انتصار
تحققه ، توجع أهل الجاه على اختلاف
درجاتهم ، وأسباب جاههم فلم يجد غير أسلوب النسك والزهد والوعظ ، ولم يجد حقيقة
تقهر الجميع وتخضع رقابهم غير الموت ، ولم يجد مذلة لهم غير القبر .[14]
وكان بعض من مال به هواه إلى المجون ، وغلب
غليه في ذلك الجنون ، يمقت أبا العتاهية ويحسده ويغتابه ، لانصرافه عن طبقته من
الشعراء المستخفين ، إذ بان له من ضلالهم ما زهد في أقوالهم ، فمال عنهم ، ورفض
مذاهبهم ، وأخذ عن طريقهم ، وتاب توبة صادقة ، وسلك طريقة حميدة ، فزهد في الدنيا
، ومال إلى الطريق المثلى ، وداخل العلماء والصالحين ، ونور الله قلبه فشغله
بالفكر في الموت وما بعده ، ونظم ما أستفاده من أهل العلم من السنن وسيرة السلف
الصالح ، وأشعاره في الزهد والمواعظ والحكم لا مثيل لها ، كأنها مأخوذة من الكتاب
والسنة.[15]
هو في هذا الدور الجديد يعود ليقذف في وجه
المجتمع بما أنكره عليه من قبل من تواضع أصله ، وضآلة حرفته ، فيبدو سافراً لهم
يلبس الصوف ويجلس للحجامة ، ويعلن أنه يربي نفسه بذلك السلوك ، وكأنه يُأكد لهم
أنه أصبح في مقام ومقال يستدعى منه الغرور
والكبرياء ، وها هو ذا يسلك مسالك أهل الطريق الذين يتجهون لإذلال أنفسهم طلباً
لتأديبها وتوضعها ، وكأنما عمد أبو العتاهية لاتخاذ هذا السلوك الصوفي لأنه به
يترفع عن كل ما كان يوجع من تناقضات مجتمعه ، وهو في الوقت ذاته يغسل أمام مجتمعه
أيام لهوه وتخنثه ومجانته ، لأنه يعمد إلى تربية نفسه وإخضاعها وتطهيرها .[16]
3-
نيران المظالم
ورائحة الموت
لقد شاهد ابو العتاهية المجازر ، وحقارة الدنيا
في مجتمع الكوفة حيث اشتدا الصراع بين الأمويين والعباسيين ، وبين بني العباس
أنفسهم ، وشاهد هون الأنسان مهما كان قدره ومنزلته وروعته مشاهد الموت ، وهاله
أكثر من مرة سقوط أهل المنعة والكرامة في ساحة الردى.[17]
دخل رجل يدعى أبو عبيد الله على المهدي ،
وكان قد وجد عليه في أمر بلغه عنه ، وأبو العتاهية حاضر المجلس ، فجعل المهدي يشتم
أبو عبيد الله ويتغيظ عليه ، ثم أمر به فجر برجله و حبس ، ثم أطرق المهدي طويلاً ،
فلما سكن أنشدهُ أبو العتاهية : [18]
أرَى الدّنْيَا لمَنْ هيَ في يَدَيْهِ عَذاباً، كُلّما كَثُرَتْ لَدَيْهِ
تُهينُ المُكرِمينَ لهَا
بصُغْرٍ
وَتُكرِمُ كلّ مَن هانَتْ علَيهِ
إذا استَغنَيتَ عَن شيءٍ،
فدَعهُ وخذ ما أنتَ محتاج إليهِ [19]
فتبسم المهدي وقال لأبي العتاهية : أحسنت .
وقــــال :
أنا بالله وحدهُ وإليهِ إنّما الخَيرُ كُلّهُ في يَدَيْهِ
أحمدُ اللهَ وهو ألهمني
الحمدُ على المَنّ وَالمَزيدُ لَدَيْهِ
كمْ زمانٍ بكيتُ منهُ
قديماً ثمَّ لما مضى بكيتُ عليهِ[20]
فقام أبو العتاهية ثم قال : والله يا أمير
المؤمنين ،ما رأيت أحداً أشد أكراماً للدنيا ولا أصون لها ولا أشح عليها من هذا
الذي جر برجله الساعة ، ولقد دخلت إلى أمير المؤمنين ودخل وهو أعز الناس ، فما
برحت حتى رأيته أذل الناس ، ولو رضي من الدنيا بما يكفيه لاستوت أحواله ولم تتفاوت
. فتبسم المهدي ودعا بأبي عبيد الله فرضي عنه ، فكان أبو عبيد الله يشكر ذلك لأبي
العتاهية .[21]
لقد عاش أبو العتاهية حياة كثر فيها القتل و التقلبات السياسية في
البيت العباسي بين أمراء العباسيين ، ثم ما كان يلحق العلويين من أذى وتقتيل
وتشريد .[22]
وفي ثنايا
أخباره مما يدل على أن ضربه وسجنه قد تكرر ، فإذا كان عهد الرشيد فأن السجن يزداد
حدة ، والضرب يزداد أيجاعاً ، والهول يفري الحشاشة حيث يشهد في السجن قتل سجين
امام عينه ، ويسأله الرشيد نفسهُ عن وقع الكارثة عليه . [23]
ويرى الدكتور يوسف خليف أن سبب سجن الرشيد
لأبي العتاهية ، هو أن أبا العتاهية كان يكثر ويلح في معانيه على طغيان الملوك ؛
وغفلتهم بالدنيا ، ثم زوال ملكهم مهما طال ، وتساويهم بالسوقة امام الموت .[24]
ويجعل الحديث عنهم موضوعاً لاستخلاص العبرة
، فيقول :[25]
وكم من
عظيمِ الشأنِ في قعرِ حفرةٍ
تلحفَ فيها بالثــرى وتسربلا [26]
ويقـــول :
وكـــمْ
مــــنْ مـلـوك قــد رأينا تحصنت
فـــعطلت الأيــام منــها حُصُـونــها [27]
وبرغم عدم حبه للبرامكة وميله إلى الفضل بن
ربيع ضدهم ، وعدم مدحه لهم وعدم استجابة يحيى البرمكي لمن توسط عنده لأبي العتاهية ، نقول برغم هذا
كله فلا بد أن مصرعهم بما فيه من بشاعة وفداحة
وغدر قد راع أعماق المخوفة المذعورة بتراكم الموت في داخلها .
فهو في مراحل متعددة ومواقف لا تدخل الحصر
شاهد المظالم واصطلى بنيرانها وروعته مشاهد الموت ، وهاله أكثر من مرة سقوط أهل
المنعة والكرامة في ساحة الحياة كأنهم حشرات يحسن التخلص منها دون حرمة او إعذار .[28]
4-
مجتمع العامة
أنت الكوفة تتكون من طبقات متعددة تتصدرها
طبقة الأرستقراطية العربية ، ثم الموالي ، ثم العامة من العرب والفرس ، والأنباط
والسريان على تفاوت بينهم .[29]
وفي هذا الدور من أدوار أبي العتاهية في
الزهد يعرف كيف يحكم موقفه ، لأنه يقع موقع المناسب من ذوق العامة ، وهم القاعدة
العريضة في طبقات الأمة ، أنه يهون عليهم بعظاته مشقات الحياة وويلات المعناه وحدة
المفارقات والمظالم ، وهو يسوي بينهم وبين كل الكبار في مصير الموت والقبر والحساب
، ويبقي للعامة فضل على الكبار في ان العامة أبرياء من الظلم ، محرومون من النعم ،
صابرون على كل المحن والغِيرَ ، ولا شك أن مآلهم في الموت وما بعده أرفع منزلة
وأوفى كرامة ، وفي هذا التميز لهم على السادة وأهل الجاه ، فأبو العتاهية يرضي العامة
في مستقبل الموت السعيد لهم ، ويجلد غيرهم بهذا المصير فهو ينتقم للعامة من ناحية
، ويعلي شأنهم من ناحية أخرى .[30]
كان أبو العتاهية في صراع مع مجتمعه في
آلامه النفسية ، يمثل القاعدة العريضة التي يطلق عليها اسم مجتمع العامة ، وبراعة
أبو العتاهية تكمن في أنه يدرك ان أهدافه الخاصة هي اهداف مشتركة بينه وبين مجتمع
العامة ، فهو يمثله أو ينوب عنه .[31]
فهذا وجه من وجوه عبقرية الفنان ، فقيام
الشاعر العبقري رهن بقيام علاقة معينة بينه وبين مجتمعه .[32]
أحتمى أبو العتاهية بالزهد ليشفي جرح نفسه ، وجراح العامة في مجتمعه ، ليس تزييفاً
وكذباً ومراوغة في سبيل أهداف أخرى غير ما قصد إليه فيما قالهُ في زهدهِ ، على
حدتها وشراستها في النيل من الإنسان عامة وإنسان طبقة العتاة والمتجبرين والسادة
بنوع خاص ، وإذ صح ان أبا العتاهية كانت له أغراض أخرى سياسية ومادية ، حققها من
وراء زهده .[33]
5-
بخله وحرصه
ومكانهما من زهده
تفيض أخبار أبي العتاهية بالحرص وشدة البخل
وقد أحصيت لها في الأغاني أثنا عشر موضعاً ، بلغ من قسوته فيها أنه أجاع خادمه حتى
مات فيما يبدو جوعاً .[34]
يقول محمد بن عيسى الخُزيمي : كان لأبي
العتاهية خادم أسود ، وكان يجري عليه في كل يوم رغيفين ، فجاءني الخادم يوماً ،
فقال : والله ما أشبع ؛ فقلت : وكيف ذاك ؟ قال : لأني ما أقتر من الكد ، وهو يجري
عليا رغيفين بغير إدام ، فإن رأيت تكلمه حتى يزيدني رغيفاً فتؤجر ؟ فوعدته بذلك ؛
فلما جلست معه مر بنا الخادم فكرهتُ إعلامه أنه شكا إلي ذلك ، فقلت له : يا أبا
إسحاق كم تُجري على هذا الخادم في كل يوم ؟ قال : رغيفين ؛ فقلت له : لا يكفيانه ؛
قال : من لا يكفه القليل لم يكفه الكثير ، وكل من أعطى نفسه شهوتها هلك ، وهذا
خادمٌ يدخل في حرمي وبناتي ، فإن لم اعوده القناعة والاقتصاد أهلكني وأهلك عيالي
ومالي ؛ فمات الخادم بعد ذلك فكفنه في إزار وفراش له خلقِ ؛ فقلت له : سبحان الله
! خادمٌ قديم الحرمة طويلُ الخدمة ، واجب الحق في خلق ، وإنما يكفيك له كفن بدينا
! فقال : إنه يصير إلى البلى ، والحي أولى بالجديد من الميت ؛ فقلت له : يرحمك
الله يا أبا إسحاق ! فلقد الاقتصاد حياً وميتاً .[35]
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني علي بن مهدي
قال حدثنا عبد الله بن عطية الكوفي قال حدثنا محمد بن عيسى الخزيمي ، وكان جار أبي
العتاهية ، فال : كان لأبي العتاهية جار يلتقط النوى ضعيفٌ سيئ الحال متجمل له
بنات ، فكان يمر بابي العتاهية طرفي النهار ، فيقول أبو العتاهية : اللهم أغنهِ
عما هو بسبيله ، شيخ ضعيف سيئ الحال له بنات متجمل ، اللهم اعنه ، اصنع له بارك
فيه. فبقي على هذا إلى أن مات الشيخ نحواً من عشرين سنة . ولا والله إن تصدق عليه
بدرهم ولا دانق قط ، وما زاد على الدعاء شيئاً . فقلت له يوماً : يا أبا إسحاق إني
أراك تُكثر الدعاء لهذا الشيخ وتزعم انه فقير معيل ، فلِمَ لا تتصدق عليه بشيء ؟
فقال : أخشى أن يعتاد الصدقة ، والصدقة اخر كسب العبد ، وغن في الدعاء لخير كثير .[36]
وله حكايات ونوادر بعضها يضحك ، وبعضها
يوجع القلب حسرة عليه وعلى ما آل إليه حاله من البخل على نفسه وأولاده ، وقد أحرجه
معاصروه وهاجموه ، وكانت له إجابات عليهم ، ومنها ما يرويه صاحب الأغاني من أنه
قيل لأبي العتاهية : " مالك تبخل بما
رزقك الله " فقال : والله ما بخلت
فيما رزقني قط ، قيل له : وكيف ذاك وفي بيتك من المال ما لا يحصى ؟ قال : ليس ذلك
رزقي ، ولو كان رزقي لأنفقته .[37]
قال ثمامة بن أشرس أنشدني أبو العتاهية :
إذا المرءُ لـم يُعتق من المال نفسهُ تمَلكهُ المالُ الذي هوَ مالكُهْ
ألا إنمـــا مالي الذي انـــا مُنفِقٌ ولــيس لــي المالُ الــذي أنا
تاركُهْ
إذا كُنت ذا مــال فبادر به الذي يحــقُ ولا استَهلكته مَهالكُهْ [38]
فقلت له : من أين قضيت بهذا ؟ فقال : من قول رسول
الله "ﷺ" ( إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت ، أو لبست
فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ) . فقلت له : أتؤمن بأن هذا قول رسول الله "ﷺ"
وانه الحق ؟ قال نعم . قلت فلم تحبس عندك سبعاً وعشرين بدرة في دارك ، ولا تأكل
منها ولا تشرب ولا تزكي ولا تقدمها ذخراً ليوم فقرك وفاقتك ؟ فقال : يا أبا معن ،
والله إن ما قلت لهو الحق ، ولكني أخاف الفقر والحاجة إلى الناس . فقلت : وبم تزيد
حالُ من افتقر على حالك ، وأنت دائم الحرص دائم الجمع ، شحيح على نفسك ، لا تشتري
اللحم إلا من العيد إلى العيد ؟ فترك جواب كلامي كله ، ثم قال لي : والله لقد
اشتريت في يوم عاشوراء لحماً وتوابله وما يتبعه بخمسة دراهم . فلما قال لي هذا
القول أضحكني حتى أذهلني عن جوابه ومعاتبته ، فأمسكتُ عنه وعلمت أنه ليس ممن شرح
الله صدره للإسلام .[39]
أما الفقر فقد كان هاجسه ، والعودة إليه
كان شاغله ، يقول :
قال محمد بن عيسى هذا : وقلت لأبي العتاهية
: أتزكي مالك ؟ فقال : والله ما أنفق على عيالي إلا من زكاة مالي. فقلت سبحان الله
! إنما ينبغي أن تخرج زكاة مالك إلى الفقراء والمساكين . فقال : لو انقطعت عن
عيالي زكاة مالي لم يكن في الأرض افقر منهم .[41]
لقد عرف عن أبي العتاهية حبه للمال والحرص
على الدنيا ، وقد كان ذا نظر في العواقب وضبط نفس ، فلم يكن شديد الميل إلى
الإنفاق في سبيل الشهوات ، ولم تكن مشاركته لزملائه في مجونهم أيام شبابه ، لتقتل
فيه ميله إلى الحرص والرزانة ، جاراهم ولكن إلى حين ، واندفع في تيار الحياة ولكنه
لم يرخ لنفسه العنان . [42]
إن حب المال طبيعة في كل إنسان ، من أجل
ذلك يمسكه ، ويحافظ عليه ، وإذا كانت ظاهرة الإمساك والمحافظة تعتبر بخلاً .
وسبب هذا البخل هو انه كان يرى هذا المال
رزقاً خاصاً بأولاده يواجهون به الأيام بعد موته ، ولاسيما بناته ، وقد عودهن
البخل وشدة الاقتصاد ، حتى يظل المال بعد موته في أيديهن امنا وحماية ، بدليل أنه
يرغب عن تزويجهن من الفقراء ، ذلك لما تقدم له خاطب لأحد ابنتيه ، قال : " ما
كنت لأزوجها إلى بائع خزف وجرار ، ولكن
أختار لها موسراً " [43]
أن كل ما ذكر من حب المال ، وعدم الرجوع
إلى فقره ، وتعويضاً عن ضعت الأصل ، يعد مسوغاً لظاهرة البخل .
ولكن حين نتصفح ديوان أبي العتاهية ،
ونستعرض أشعاره ، ونتعرف على موضوعاته ، فأننا نستغرب مما يدعو إليه الشاعر ؛ لأن
دعواته تتعارض وتتناقض مع اتهامه بالبخل ، فهو يدعو إلى الزهد ، وإلى التفكير في
عواقب الدنيا ، مصرحاً بأن الأنسان لا يأخذ معه من ماله الذي جمعه إلى الأخرة
شيئاً ، فهو يقول :[44]
جمعت من الدنيا ، وحزت ومنيتا وما لك إلا ما وهبت ، وأمضيتا
وما لـك مما يأكل الناس غير ما أكلت من المال الحلال ، وأفنيتنا
ومـا لـك إلا كــل شيء جعلتـه أمامك ، لا شيء لغيرك أبقيتـا [45]
ويقــول :
أيها الطالبُ الكثير ليغني كلُ من يطلب الكثيرَ فقيرُ
وأقتلُ القليلِ يُغني ويَكفي ليس يُفني ، وليس يكفي الكثيرُ[46]
وإذا صحت قضية بخله ، فإننا نكون قد واجهنا
شخصية مزدوجة متناقضة ، ويتمثل هذا التناقض في قضيتين هما : السلوك والقول ،
فالسلوك لم نشهده ، وكذلك القول لم نسمعه بشكل مباشر ، فمثلما على زهده بشعره الذي
وصل إلينا عن طريق الرواية ، فإن أخبار سلوكياته وصلت إلينا عن طريق الرواية أيضاً
مبثوثة في بطون المصادر ، فالقضيتان تعبير ظاهري عن تناقض داخلي ، وتنازع نفسي .
فتوقعنا من الشاعر ان يطبق قوله فعله ، وان يفعل ما يقول ، ولو تحقق ذلك لكان
الشاعر كريماً سخياً لا ينظر إلى دنياه ، وخاصة أنه يتبنى مبدأ الزهد ، ويترفع عن
لذائذ الحياة ، ورغد العيش .[47]
يقول :
يا طالبَ الدنيا ليُثقِل نفسهُ إن المُخف غداً لأحسنُ حالاً
إنا لفي دارٍ نرى الإِكثار لا يبقى لصاحبهِ ولا الإقلالاَ
أَأخي إن المال إن قدمتهُ لك ليس إن خلفتهُ لك مالا
أأخي كلٌ لا محالة زائلٌ فلمن أراك تثمرُ الأموالا
أأخي شأنكَ بالكفافِ وخل من أثرى ونافسَ في الحُطامِ وغالى
كم من ملوكٍ زال عنهمْ ملكهمْ فكأن ذاك الملكَ كان خيالا [48]
هو في النص الواحد يناقض نفسه ، فحيث يرغب
في البذل ، يعترف بأن نفسه لا تسموا إلى منزلة التورع عن المال والفرح بالظفر به ،
يقول :[49]
إنْ للخَيرِ لَرَسْماً
بَيْنَنَا،
طبعَ اللهُ عليهِ ما طبعْ
قد بلونَا الناسَ في أخلاقهمْ فرأيناهُمْ لذي المال
تَبَعْ
وحَبيبُ النّاسِ مَنْ
أطْمَعَهُمْ،
إنما الناسُ جميعاً بالطمعْ
احمدِ اللهَ
على تدبيرهِ قدَّرَ الرِّزقَ فعطى ومنَعْ
سُمْتُ نَفْسِي وَرَعاً
تَصْدُقُهُ،
فنهاها النقصُ عن ذاكَ الورعْ
وَلنَفسي حِينَ تُعطَى فَرَحٌ، واضطرابٌ عندَ منعٍ وجزعْ [50]
6-
سماته النفسية واستعداده الفطري
الزهد نمط
سلوكي إنساني ، يؤدي إليه التكوين النفسي لبعض الأفراد من جهة ، وتساعد عليه
الظروف الاجتماعية من جهة أخرى ، فالناس بحكم تكوينهم النفسي منهم الانبساطي
المتفتح للحياة والمقدم عليها في نهم ، ومنهم الانقباضي العازف عن الحياة الزاهد
فيها ، المنطوي على نفسه .[51]
رزق أبو العتاهية رهافة الحس منذ صغره ،
ووجد في نفسه غزارة الطبع التي تمكنه من نظم الشعر ، يقول عنه صاحب الأغاني أخبرني
محمد بن يحيى قال حدثنا شيخ من مشايخنا ، قال حدثني محمد بن موسى قال : " إنه
كان ذا لباقة وحفاصة ، وكان هو نفسه يعرف
موهبته يعرف موهبته ويعتد بها ، فقد سئل عن نفسه ، فقال : أنا جرار القوافي ، وأخي
جرار التجارة " [52]
ومما يؤخذ عليه عدم ثبوته على مذهب أو نهج
معين ، فهو يعتقد شيئاً ما ثم إذا سمع طاعناً يذم هذا الشيء ، فسرعان ما يتحول عنه
دون نقاش أو جدل .[53]
لم تكن شخصية أبي العتاهية على شيء من
التماسك والانسجام ، ورؤيته للعالم غريبة ، تكمن في تلمس العذاب ضمن السرور ،
وإدراك النهاية في صميم البداية ، والإحساس بالألم خلال الاستمتاع باللذة والشعور
بالموت ببصيص بعينيه الرهيبتين وراء الحياة . وهذه الرؤية الغريبة نجمت عن مزاج
خاص ، وعن تكوين نفسي وصحي قل نظيره .[54]
[2] الشعر العباسي تطوره وقيمه
الفنية ، ص238
[3] ديوان أبي العتاهية ، ص245
[4] أبو العتاهية أشعاره وأخباره
، تحقيق د. شكري فيصل ، دار الملاح للطباعة والنشر ، دمشق-سوريا ، 1965م-1384هـ ، ص348
[5] ديوان أبي العتاهية ، ص394
[6] الشعر العباسي تطوره وقيمه
الفنية ، ص238
[7] ديوان أبي العتاهية ، ص385
[8] المرجع نفسه ، ص386
[9] الشعر العباسي تطوره وقيمه
الفنية ، ص239
[10] ديوان أبي العتاهية ، ص178
[11] التجربة الزهدية بين أبي
العتاهية و أبي إسحاق الألبيري ، محمود لطفي نايف عبدالله ، 2009م ، ص20
[12] الشعر العباسي تطوره وقيمه
الفنية ، ص209
[13] المرجع نفسه ، ص212
[14] نفسه ، 242
[15] التجربة الزهدية بين أبي
العتاهية و أبي إسحاق الألبيري ، ص21/22
[16] الشعر العباسي تطوره وقيمه
الفنية ، ص242
[17] التجربة الزهدية بين أبي
العتاهية و أبي إسحاق الألبيري ، ص26
[18] أبو العتاهية أشعاره وأخباره
، ص 410
[19] ديوان أبي العتاهية ، ص464
[20] المرجع نفسه ، 465
[21] أبو العتاهية أشعاره وأخباره
، ص411
[22] التجربة الزهدية بين أبي
العتاهية و أبي إسحاق الألبيري ، ص27
[23] الشعر العباسي تطوره وقيمه
الفنية ، ص240
[24] التجربة الزهدية بين أبي
العتاهية و أبي إسحاق الألبيري ، ص27
[25] أبو العتاهية أشعاره وأخباره
، ص411
[26] ديوان أبي العتاهية ، ص345
[27] المرجع نفسه ، ص451
[28] الشعر العباسي تطوره وقيمه
الفنية ، ص240/241
[29] التجربة الزهدية بين أبي
العتاهية و أبي إسحاق الألبيري ، ص25
[30] الشعر العباسي تطوره وقيمه
الفنية ، ص243
[31] التجربة الزهدية بين أبي
العتاهية و أبي إسحاق الألبيري ، ص25
[32] الشعر العباسي تطوره وقيمه
الفنية ، ص244
[33] المرجع نفسه ، 244ص
[34] المرجع السابق ، ص245
[35] أبو العتاهية ، د. هاشم صالح
مناع ، ص16/17
[36] كتاب الأغاني ، لأبي الفرج الأصفهاني
، تحقيق د. إحسان عباس و د. إبراهيم السعافين و أ. بكر عباس ، دار صادر ،
بيروت-لبنان ، الطبعة الثالثة ، 2008م-1429هـ ، ج4/16
[37] التجربة الزهدية بين أبي
العتاهية و أبي إسحاق الألبيري ، ص23
[38] ديوان أبي العتاهية ، ص317
[39] كتاب الأغاني ، دار صادر ،
ج4/ص15
[40] ديوان أبي العتاهية ، ص217
[41] كتاب الأغاني ، دار صادر ،
ج4/ص17
[42] أمراء الشعر العربي في العصر
العباسي ، ص153
[43] التجربة الزهدية بين أبي
العتاهية و أبي إسحاق الألبيري ، ص24
[44] أبو العتاهية ، د. هاشم صالح
مناع ، ص21
[45] ديوان أبي العتاهية ، ص84
[46] المرجع نفسه ، ص164
[48] ديوان أبي العتاهية ، ص346
[49] الشعر العباسي تطوره وقيمه
الفنية ، ص246
[50] ديوان أبي العتاهية ، ص 246
[51] التجربة الزهدية بين أبي
العتاهية و أبي إسحاق الألبيري ، ص28
[52] كتاب الأغاني ، دار صادر ،
ج4/ص9-10
[53] التجربة الزهدية بين أبي
العتاهية و أبي إسحاق الألبيري ، ص29
[54] المرجع نفسه ، ص29
تعليقات
إرسال تعليق